ومازالت تبكى
مثل صدفة كنت أبحث عنها قابلتها فى بيروت لأول مرة .."جومانا"فتاة فى العشرين من العمر تختصر أشياء كثيرة عيناها اختصار لزمن الحرب ,جمالها اختصار لكل أشجار الأرز ,حزنها اختصار لعزف الرصاص على أسفلت الشوارع , أفكارها اختصار لأحزان دفنها الموت فى مقابر المدينة , كلامها اختصار لقصص حب مجهضة نقشت فوق أبواب المخابئ , ملابسها اختصار للحيرة والتمرد .
كانت زيارتى الاولى لبيروت التى رأيتها فى أغنيات فيروز وقصائد نزاروأفلام فريد الأطرش..وكان خروجها الأول من الخوف بعد سنوات كان فيها الموت يتمشى فى الطرقات ويتسلى بالوقوف على ناصية كل شارع وشرفات البيوت .
جئت أبحث عن بيروت التى تصنع السعادة وتبتكر السهر وتتباهى بالحرية , فوجدتها . ملامحها البريئة لا تلغى تجارب الألم ..سنواتها العشرون لا تفسد العمر الحقيقى لها .. صوتها المتقد لا يعكس صورتها المكسورة .
بيروت مازالت ترفع الستار عن روايتها وأيامها الجديدة مازالت مثل عصفور مهشم يحاول ان يستعيد ذاكرة التحليق والطيران ,أنقاض الحرب لم تحذف بعد , آثار الدموع لم تجف بعد , ملمس الجدران الهشة من دوى القنابل و الدخان لم يزل قابلا لأستعادة عمر المعارك والسطو على حياة العابرين فى إستسلام .. مقاهى الحمراء مغلقة , أنوار الشوارع مرتعشة , قاعات السينما مظلمة .. قلب بيروت مازال غارقا فى الخوف والتردد , وحين تقابل فتاة عاشت كل فصول الرعب وكل مواسم البارود تصبح احاسيسك تجاهها فوضوية تحتمل الدهشة والأسف والاعتذار كأنك كنت مسئولا عن سنوات الحرب وكل ضحايها , كأنك كنت حبيبها الذى فقدته قبل الفجر , أو كنت صديقتها التى ذهبت دون وداع.. ولم تعد.
قدمت لها مشاعرى كأننى أشاركها مشاعرها ونحن نشرب فنجانا من القهوة المرة على بحر"الروشة"لم أكن مستعد تماما لأسمع منها روايات عن سنوات تريد هى أن تنساها,تريد أن تفقد ذاكرتها من أجلها وتريد أيضا أن تحكيها ليأخذها أحد غيرها ويرحل بها بعيد عنها..قالت أن "الحكى"لا يكفى لأتوحد معها فى قصة عاشتها فقدت فيها فى ليلة واحدة لم يسطع فيها قمر ولا نجم..كل عائلتها ذهبت تعد الشاى فى مطبخ البيت وحين عادت كان بيت العائلة قد انشطر نصفين بقوة صاروخ التهم الشجر والبشر معا.
لم تجد نصف البيت الذى يجلس فيه الأب والأم والعم وثلاثة اشقاء ينتظرون الشاى والفطائر..سقط النصف الذى يحمل الأحباء فى لحظات و سقط معه كل أيامها وأحلامها وأهلها.
وجدت فراغا,نارا,دخانا,رائحة اجساد تحترق وبقايا اصوات كانت تستغيث قبل أن تودع الحياة بلا سابق انذار..اخرجت اعز ما تملك اشلاء بلا رؤوس من تحت الأنقاض المحترقة..وجدت اصابع امها الحبيبة وهى تحمل خاتما عليه الحروف الأولى من قصة حب دامت ثلاثين عاما..عثرت على دمية شقيقتها الصغيرة مبللة بالرجاء والدماء..داست على برواز كان يحمل صورة ضمت اسرتها جميعا فى أمان ذهب مع الصاروخ.
من يتحمل مثل هذه الصدمة حتى لو كان من الرخام أو الحديد..من يصدق أن فى الأعصاب بقية تتحمل ما هو قادم من سنوات..عاشت تتعذب ليس بالوحدة وحدها انما بالمشهد الذى لا يريد أن يسكت عن العودة الى عقلها..تماسكت قليلا حينما علمت أنها ليست إلا واحدة من آلاف المأسى التى قد لا نصدقها اذا كتبها قلم مؤلف..تنقلت من بيت الى بيت ومن مخبأ الى مخبأ ومن خوف الى حزن حتى استقر بها المطاف ممرضة فى مستشفى..تستقبل الجرحى
مع كل دقة مدفع..وتنتظر الرحيل مع كل معاهدة سلام..ثم سافرت من بيروت الى الجنوب وهناك تعلمت كيف تحمل السلاح لعلها تنتقم من الذين جردوها من طفولتها وجرجروها فى ازقة مدينتها ثم عادت الى شارعها القديم تدافع عما تبقى له من ماضى وتتحاور بالرصاص و بالقنابل..كان لقصتها سطر اخر كتبوه على جسدها الصغير حين اغتصبها اربعة رجال من جيرانها على نفس الأنقاض التى شهدت وداع احبابها..ولم يعد لأى شئ معنى لا عمرها الصغير ولا فستانها الممزق ولا سلاحها الذى لم يستطع الدفاع عنها.
وحين رئيتها بعد مرور كل هذه الأيام الصعبة..وانصت لها تروى قصتها كأنها لفتاة أخرى عرفتها ولم تكن هى..كانت"جومانا"تحتسى القهوة وتتكلم وداخلها فيضان تتضارب فيه المشاعر.
وحين سألتنى كيف تظن ككاتب أن تفعل فتاة مثلى فى مستقبلها؟؟
كنت قد أصبحت ورقة مطوية فى دموع..وعقل غير قابل للبحث عن اجابة..وانكسار لا يمكن اصلاحه..وبقية قصتها تطاردنى حين احاول أن استريح وحين اذهب الى بيروت وحين اسمع فيروز